يقول المصنف رحمه الله: [وأما الشخص المعين إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟]، أي: ممن ينزل بهم الوعيد، كما ذكرنا لو أن إنساناً شهد بأن فلاناً من أهل الوعيد بناءً على أنه أكل مال اليتيم، أو زنى، أو شرب خمراً، أو سرق، أو نحو ذلك، "أو أنه كافر"، أي: إذا ارتكب مكفراً في نظر أحد، قال الشيخ: "فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة".
ولم يقل الشيخ: لا نشهد على أحدٍ أو لا نكفر أحداً بالكلية، فإن هذا ليس هو مذهب أهل السنة، ومن الناس من يقول: لا نكفر أحداً بالكلية، ولا ننطق بكلمة الكفر بأفواهنا، ولا نطلقها في كتاباتنا، ومجرد أن يراها أو يسمعها يقشعر جلده وتشمئز نفسه، ويقول: هذه سبب الفتنة، وهي التي أدت إلى الخلاف منذ قديم الزمان، وهي التي منعتنا من توحيد الصفوف ومن جمع الكلمة.. ويأتي بعلل ما أنزل الله بها من سلطان!!
فنقول: ليس هذا هو المنهج الصحيح، فإن الشيخ يقول: "لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة"، والشهادة تجوز في الأمر المتيقن، فمن رأى إنساناً يسرق ويأخذ مالاً من حرز، أو يشرب خمراً، فإنه يشهد عليه.
فمن كان متيقناً من أمر فإنه يشهد به ولا حرج في ذلك، فيكون قد أدى ما عليه من الشهادة، بل قد يأثم إذا لم يشهد كما قال تعالى: ((وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ))[البقرة:283]، فلو كتم شيئاً من الشهادة يترتب عليها حقوق أو مصالح للعباد فإنه آثم.
فالشهادة يدلى بها وتقال وتبين، فلا ننفي مطلقاً بأن لا نشهد على معين بالكفر، وأيضاً لا نطلق الحكم جزافاً، فنقول: هذا المعين كافر، وهذا هو التوسط.
أما الفرق الضالة فإنها خالفت أهل السنة في هذا الأمر، فـالمرجئة وأشباههم ابتعدوا عن إطلاق الكفر بالكلية!
والخوارج يكفرون الرجل بعينه! وإن كان من أفضل الناس ومن خيارهم؛ لأنه فعل فعلاً قد لا يكون كفراً ولا كبيرة، ولكنه في نظرهم كذلك.
وأهل السنة والجماعة هداهم الله تعالى للطريق الوسط بين هذين، فهم لا يكفرون أو يبدعون أو يضللون أو يفسقون إلاَّ بأمر تجوز معه الشهادة، أي: في حق المعين.
يقول المصنف رحمه الله: [فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار].
فمن ادعى أن فلاناً من الناس كافر، وهو على غير يقين وعلى غير علم بحاله وبحقيقة أمره، فقد بغى عليه أعظم البغي؛ لأن من لوازم ذلك ومما يترتب عليه: أن هذا الرجل سيكون خالداً مخلداً في النار، وأن الله لن يغفر له ولن يرحمه.
وأنه في هذه الدنيا ليس من المسلمين، ولا يقبل منه أي عمل، ويموت كافراً، ولا تتوفاه إلا ملائكة العذاب التي تتوفى الكافرين، ويعذب في قبره عذاب الكافرين، ويحشر يوم القيامة مع الكفار، ويكون مصيره النار والخلود فيها … إلخ، وكل هذه الأحكام تابعة للقول بأن فلاناً من الناس كافر.
إذاً: هذه أمور ليست هينة حتى تطلق جزافاً؛ بل تحتاج إلى تبصر مهما بلغت الذنوب، وليس هناك جرم بعد الشرك بالله كقتل النفس، وقد قتل رجل مائة نفس، وفي طريقه إلى القرية الصالحة مات، ولو أن أحداً من الناس رأى حاله وظاهره لقال: هو كافر، وهو في النار، لا سيما وأنه قد يستشهد بآية القتل: ((وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا))[النساء:93]، ويقول: هذا إنسان فعل ما فعل فلا حرج أن أقول: هو خالد مخلد في النار! فنقول: هذا الاستدلال غير صحيح، فهذا الرجل قد تاب، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم توبته، وما ذهب إلى تلك القرية إلاَّ مهاجراً تائباً.
فسيقول الذي كفره: أنا لا أعلم ذلك.
فنقول: ما دمت لا تعلم فلا تكفر، فإنه مهما قتل أو زنى أو سرق أو ارتكب أي معصية أو كبيرة، لم يحكم الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على فاعلها بالكفر؛ فلا يجوز أن تقول: قد كفر، وأنت لم تتأكد هل يستحق الكفر أم لا؟
وأيضاً من علمت كفره يقيناً فإنك تشهد عليه بالكفر دون أن تجزم أنه سيموت على ذلك؛ فما يدريك لعله قد يتوب! وهذا أمر مهم، ولا يعني ذلك أن الإنسان لا يكفر أحداً وإن ظهر كفره، وذلك حتى لا نقع في الطرف الآخر وهو التفريط، فإن بعض الناس قد يرى الكافر ويقول: لا أستطيع أن أكفره؛ لأنه يمكن أن يتوب.
فنقول: إذا تاب ورجع إلى الإسلام فارجع أنت أيضاً بالحكم له بالإسلام، وما دام أنه على هذا الكفر فاشهد له بالكفر.. فالمسألة فيها طرفان ووسط.
فمن هلك ومضى وأنت تعلم يقيناً أنه مات على الكفر ولا تعلم له توبة، فاشهد أنه مات على الكفر.
فإن قيل: أنت لا تعلم حاله في الباطن؟
قلنا: نحن لا نتكلم عن الباطن، لكن الله تعبدنا أن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر، فلو لم نكفر من مات على الكفر لاختل الأمر وأصبح الناس في شك؛ لأنه يمكن أن يموت بعض الكفار على الإسلام، فإذا جوزنا الإمكان فإنه يرد على كل.
فنقول: إذا وجدت قرائن تصلح لأن تكون شبهات تحول دون الإطلاق فلا نطلق الحكم، وإن لم يكن إلا مجرد الاحتمال فلا يجوز البناء على الاحتمال ما دام أن الله تعالى أو الرسول صلى الله عليه وسلم نص على خلافه، فما حكم الله سبحانه وتعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم على قائله أو فاعله أو معتقده بالكفر، ونحن نعلم يقيناً أن رجلاً كان عليه إلى أن مات، فلا يرد احتمال أنه تاب قبل أن يموت، ونقول: من كان عنده بينة فليخبرنا، أما ما نعلمه يقيناً عنه فإنه لا يزول بمجرد الاحتمال أو الشك؛ فإن اليقين لا يزول بالشك.
يقول المصنف رحمه الله: [فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت]، أي: أن الشهادة بذلك هي حكم من يموت وهو يهودي أو نصراني أو من أهل الكفر والشرك الأصلي، أما المسلم أو من كان من أهل القبلة فإننا لا نطلق ذلك عليه إلا في مثل ما تجوز عليه الشهادة، بأن نشهد له على يقين؛ لأن هذه الأحكام لازمة ومترتبة على هذا القول.
ونوضح ذلك بمثال على الشهادة لمعين من أهل الكفر بأنه من أهل النار:
مثال ذلك: رجل يهودي نشأ مع اليهود ومات على دين اليهودية، فهل نشهد له بالنار أم لا؟
الجواب: لا شك في هذا، ولا يأخذنا الورع فنقول: لا ندري! ولا يعني ذلك أنه (100%) لم يسلم منهم أحد؛ لكن مجرد الاحتمال لا يلغي الأصل.
أما حكمه عند الله فهذا شيء آخر، فمن مات في بيئة لم يبلغه الدين ولا الحق، ولا سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن القرآن ولا عن الإيمان شيئاً، فهذا حكمه حكم أهل الفترة، والراجح في حكم أهل الفترة أنهم يمتحنون يوم القيامة، وبذلك يصدق عليهم أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً، ولن يدخلهم النار إلاَّ وهم مستحقون، فينتفي الظلم وتتحقق الرحمة والحكمة والعدل من الله سبحانه وتعالى بأن يمتحنهم، وهذا أصل كلي يدل على ذلك ويشهد له.
فمن الأدلة التفصيلية حديث الامتحان، وقد روي بأسانيد بعضها حسن وبعضها ضعيف، لكن يشد بعضها بعضاً، وقد فصل ابن كثير رحمه الله في طرقه تفصيلاً لا بأس به عند تفسير قول الله سبحانه وتعالى: ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا))[الإسراء:15].